اصطفاء المقرئين

بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس كتاب ربه، واستمر يدارس جبريل القرآن طيلة فترة بعثته ، يختمه كل عام مرة، وختمه في آخر عام مرتين ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم استمر يبلغ القرآن ويقرئه لأصحابه ويسعمه منهم ، وبعد ثلاث وعشرين عاماً رشح المقرئين الذين يأخذ الناس عنهم القرآن ، فقال :”خذوا القرآن عن أربعة …” فقط أربعة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل أعداداً كبيرة من حملة القرآن إلى القبائل ليعلموا عموم الناس القرآن الكريم، فأرسل إلى بني سليم سبعين من القراء، لكن الأمر العجيب أنه صلى الله عليه وسلم حين وجه الناس بأخذ القرآن الكريم من بعده لم يذكر سوى أربعة من الصحابة فقط .

وهنا أتساءل لماذا اقتصر على هؤلاء الأربعة فقط، علماً بأن غيرهم كثير ممن حفظ القرآن الكريم من الصحابة ؟

فما الذي ميز هؤلاء الأربعة ؟

هل مستوياتهم في الضبط والحفظ أفضل من البقية ؟

هل هؤلاء يحسنون تلاوة القرآن كله؟ أم يحفظونه كله وغيرهم يحفظ سوراً منه؟

هل هم أعلم بكتاب الله عز وجل من غيرهم ؟

هل هم مشتغلون بكتاب الله تعالى منقطعون له ؟ فلم يشغلهم عنه أي عمل .

لماذا هذا الاصطفاء لهؤلاء الأربعة فقط دون غيرهم ؟

علماً بأن أعداد المسلمين في تزايد مستمر، وقد دخل الناس في دين الله أفواجاً ، فهل يقوى أولئك الأربعة على استيعابهم وتعلميهم جميعاً.

لماذا لم يذكر مع أولئك الأربعة الخلفاء الراشدين ؟ وهم قطعاً ممن يحفظون القرآن الكريم، ويتلونه أناء الليل وأطراف النهار؟ يقومون به الليل، ويؤمون به الناس .

بعد تلك التساؤلات ؛ لعلي أتلمس سبب ذلك الاصطفاء ؛ فأقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتني بالتخصص والتركيز عليه ، وتكليف كل شخص بما يحسن ويجيد ، فميز بعض الصحابة ببعض المهام، فقال:”أفرضكم زيد، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، ودعا لابن عباس رضي الله عنه أن يكون عالماً بتأويل القرآن فقال :”اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل” .
فهؤلاء الأربعة هم قامات الإقراء وهم المرجع في إقراء المتقدمين من طلبة العلم ، فليس كل أحد صالح لتسنم هذا المنصب الرفيع ، والمقام العالي ، فهؤلاء هم أهل القراءة والإقراء ، وهم الضابطون المتفرغون لتعليم القرآن بقراءاته وحروفه .

خلاصة الأمر …
أن تتبع الشخص لأعلى الأسانيد والإكثار منها للبركة والمفاخرة واستجلاب الثناء من الناس خلل في القصد ، فإنما ثمرة العلم العمل ، ولا فائدة من أسانيد لا عمل من ورائها ، فإنه لا يجدي طلب الإجازة دون تحصيل ودراسة وعرض كامل للقرآن الكريم وإن طال الزمن وبعدت الشقة ، فالذي يُطلب هو العلم والتحصيل، أما من بدأ قراءة القرآن بطلب الإجازة فقد انحرف قصده عن طلب العلم ومرضاة الله تعالى، والأصل أن الطالب يعرض القرآن دون طلب إجازة أو اشتراط الحصول عليها ، والحق للمقرئ بعد ذلك أن يمنحها أو يحجبها حسب مستوى إتقان الطالب .. فإنما خطت الإجازات وكتب الأسانيد لإثبات الواقعة فقط ، وإلا فإن النسيان يمضي بكثير من العلم الذي كنزه أصحابه ولم يبذلوه ، فاقصدوا العلم والعمل ، واقرؤا وأقرئوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .

د.أحمد بن عبد الله الفريح
مكة المكرمة
18 ذو الحجة 1436 هـ

جميع الحقوق محفوظة لموقع برنامج الإقراء والإجازة