انتقاء النبي صلى الله عليه وسلم مراجع الإقراء (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد:

فقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلمالقرآن للصحابة كما أنزل عليه؛ فأدى الأمانة في الإقراء على الوجه الذي أراده الله تعالى منه، دون وكس أو شطط؛ فكان نبينا نعم مبلغ عن ربه جل في علاه؛ اكتملت عنده صفات التبليغ الأتم؛ ليصل القرآن إلى أمته عليه الصلاة والسلام عذباً طرياً كما أنزل.

وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لصحابته الأمنة الثقات الحريصون على وصف قراءته صلى الله عليه وسلم ؛ للأمة كما علمهم من غير زيادة ولا نقصان –أيضاً- حتى حاكوه في طريقة تحريكه لشفتيه واهتزاز رأسه واضطراب لحيته في القراءة.

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أتم الحرص على انتقاء مراجع الإقراء في حياته؛ ووجَّه أمته إلى الرجوع إليهم بعد مماته؛ فاختصَّ نفراً من الصحابة بهذا الانتقاء دون غيرهم، وقد كان في الأمة أكبر منهم سناً، وأسبق منهم قدراً، وأجمع منهم للعلم والسنة؛ ولكنها قضيَّة الاختصاص التي تنتج أفضل المخرجات؛ ولكل وظيفته ودوره في إنهاض الأمة؛ كل حسب مجاله وتخصصه وفنه الذي برع فيه(1).

وقد تفرَّس النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الصحابة يوم أن كان صغيراً؛ بأنه سيصبح مرجعاً للإقراء، وشجَّعه على التعلم، وأثنى عموماً على الماهر بالقرآن الكريم؛ لتتخذه الأمة مرجعاً لهم لتميزه بمهارته عليهم؛ بل قدَّم الأقرأ في مواطن كثيرة لتعلم الأمة أنه المرجع لهم ليس في القراءة فحسب، إنما في شؤونهم كلها؛ وبيان ذلك على النحو الآتي:

أولاً: تفرسه صلى الله عليه وسلم في بعض الصحابة وتشجيهم؛ ليكونوا مراجع للإقراء:

فقد تفرَّس النبي صلى الله عليه وسلم في ابن مسعود رضي الله عنهيوم أن كان صغيراً بأنه سيكون مرجعاً للإقراء يوماً ما، وشجَّعه على التعلم: فعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ ابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَاءَ [فَمَرَّ] النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ، وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَالَا [فَقَالَ]: «يَا غُلَامُ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ لَبَنٍ تَسْقِينَا؟»، قُلْتُ: [نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ] إِنِّي مُؤْتَمَنٌ، وَلَسْتُ سَاقِيَكُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ [شَاةٍ] لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟». [فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ؛ فَمَسَحَ ضَرْعَهَا؛ فَنَزَلَ لَبَنٌ؛ فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ]. قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ الضَّرْعَ، وَدَعَا؛ فَحَفَلَ الضَّرْعُ، ثُمَّ أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ صلى الله عليه وسلم بِصَخْرَةٍ مُنْقَعِرَةٍ [مَنْقُورَةٍ]؛ فَاحْتَلَبَ فِيهَا، فَشَرِبَ، وَشَرِبَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ شَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: «اقْلِصْ»؛ فَقَلَصَ؛ [قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا] فَأَتَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: [يَا رَسُولَ اللهِ] عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ [الْقُرْآنِ]؟ قَالَ: «إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ»، [قَالَ: فَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ: «يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ] ». قَالَ: فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً، لَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ(2).

فقوله : صلى الله عليه وسلم«إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ»: تفرس منه صلى الله عليه وسلم بأن ابن مسعود رضي الله عنه ؛ سيكون موفقاً من الله تعالى للتعلم، أو سيكون معلماً.

وقول ابن مسعود رضي الله عنه : «لَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ»: دليل على أنه أصبح بهذا التعليم مرجعاً للإقراء لا يسبقه فيه أحد.

ثانياً: تفضيله صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن ومحبته له؛ دليلُ كونه مرجعاً للإقراء:

وقد فضَّل النبي صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن -وهو الحاذق فيه اتقاناً وحفظاً وفهماً وتدبراً- على غيره من القراء: فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ». وقَالَ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: «… وَالَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرَانِ»(3). وفي لفظ: «… وَالَّذِي يَقْرَأ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ؛ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ»(4).

وفي لفظ: عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ»(5).

وفي لفظ: عن عائشة، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يقرأُ القرآنَ وهو ماهِر به مع السَّفرَة الكِرامِ البرَرَة، والذي يقرؤه وهو يشتَدُ عليه، فله أجرَان»(6).  وفي لفظ: هِشَامٌ: «وَهُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ». وفي لفظ شُعْبَةُ: «وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، فَلَهُ أَجْرَانِ»(7).

ثالثاً: تقديمه صلى الله عليه وسلم الأقرأ في عدة مواطن؛ دليلُ وجوب إكرام مراجع الإقراء:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدِّم الأقرأ على غيره في مواطن كثيرة؛ إكراماً له ولما يتقنه ويحمله من القرآن، فربما قدمه للصلاة، وربما قدمه للجهاد، وربما قدمه في القبر، وربما قدمه في الإمارة.

فمن تقديمه صلى الله عليه وسلم الأقرأ للصلاة: ما جاء عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا [وقال الأشج: سِنًّا]، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»(8)

وفي رواية عنه قدَّم فيها النبي صلى الله عليه وسلم الأقدم قراءة على من هو مثله في القراءة والإتقان؛ لفضل تقدمه في القراءة: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا تَؤُمَّنَّ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ، وَلَا فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا تَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَكَ، أَوْ بِإِذْنِهِ»(9).

بل بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأقرأ أحق من غيره بالإمامة، ممن هم دونه في القراءة؛ فالإمامة حق له لا يؤم غيره إلا بإذنه: فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً؛ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ»(10).

ومن تقديمه صلى الله عليه وسلم الأقراء للإمارة: ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا وَهُمْ ذُو عَدَدٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ؛ فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ؛ فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا؛ فَقَالَ: «مَا مَعَكَ يَا فُلاَنُ؟». قَالَ: مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ البَقَرَةِ. قَالَ: «أَمَعَكَ سُورَةُ البَقَرَةِ؟»؛ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاذْهَبْ؛ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ»؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ سُورَةَ البَقَرَةِ إِلاَّ خَشْيَةَ أَلاَّ أَقُومَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «تَعَلَّمُوا القُرْآنَ؛ فَاقْرَأًؤوهُ وَأَقْرِئُوهُ؛ فَإِنَّ مَثَلَ القُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ؛ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ بِرِيحِهِ كُلُّ مَكَانٍ، وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ؛ كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِئَ عَلَى مِسْكٍ»(11).

كتبه

أبو قدامة أشرف بن محمود بن عقلة الكناني

مكة المكرمة / جامعة أم القرى

السبت: 28/ ذو القعدة/ 1436ه        يوافقه: 12/ 9/ 2015م

 

([1]) قال القاضي عياض، إكمال المعلم بفوائد مسلم، ج 7 ص 489-490: (وقوله: “ما أعلم ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم  بعده أعلم بما أنزل إليه من هذا”: يعنى ابن مسعود؛ إنما خصه بما أنزله الله، كما قال، ويعلِّمُ القرآن. ولا يقال: إنه أعلم من أبى بكر وعمر وعثمان وعلي، على الجملة، وقد يكون أحد الرجلين أعلم من الآخر بالجملة، والأقل علماً أعلم بباب من العلم، ألا تراه كيف قال عن نفسه في الحديث الآخر: “لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى أعلم بكتاب الله، وما من كتاب الله آية إلا أعلم فيمن نزلت، ولا سورة إلا أعلم حيث نزلت”.).

([2]) أخرجه: أحمد، المسند، (4412) وما بين المعقوفين زدته من الرقمين: (3598) و (3599) و (4330)، وحسن إسناده شعيب.

([3])أخرجه: مسلم، صحيح مسلم، (244/ 798).

([4]) أخرجه: ابن ماجه، سنن ابن ماجه، (3779)، وأصله في البخاري ومسلم؛ كما سبق. وصححه شعيب.

([5]) أخرجه: البخاري، صحيح البخاري، (4937).

([6]) أخرجه: أبو داود، سنن أبي داود، (1454)، وقال الالباني، صحيح سنن أبي داود (الأم)، ج 5 ص 195، (1307): «قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وأخرجاه في “صحيحيهما”».

([7]) أخرجه: الترمذي، الجامع الكبير، (2904)، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

([8]) أخرجه: مسلم، صحيح مسلم، (290/ 673)،

([9]) أخرجه: مسلم، صحيح مسلم، (291/ 673)،

([10]) أخرجه: مسلم، صحيح مسلم، (289/ 672)،

([11]) أخرجه: الترمذي، الجامع الكبير، (2876)، وقال الترمذي: « هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ».

جميع الحقوق محفوظة لموقع برنامج الإقراء والإجازة